فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن قضية كونِ الأولِ أشرفَ من الثاني كونُ عملِه أيضا أشرفَ من عملِه، كيف لا، ولا عملَ بدون معرفتِه تعالى التي هي أولُ الواجباتِ على العباد، والغايةُ القُصوى من الخلق على ما نطَق به عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي ليعرفونِ كما أَعرَب عنه قولُه عليه الصلاة والسلام: «يقول الله تعالى: كُنتُ كنزًا مخفيًا فأحببتُ أن أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأُعرف» وإنما طريقُها النظرُ والتفكرُ فيما ذُكر من شؤونه تعالى. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: «لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ متى فإنه كان يُرفع له كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرض».
قالوا: وإنما كان ذلك التفكّرَ في أمر الله تعالى ولذلك قال عليه السلام: «لا عبادةَ مثلُ التفكر» وقد عرفت أنه مستتبِعٌ لتحقيق ما جاءت به الشريعةُ الحقةُ، وإلا لما فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} بقوله عليه الصلاة والسلام: «أيُكم أحسنُ عقلًا وأورَعُ عن محارم الله تعالى» فإن التورعَ عن محارمه سبحانه موقوفٌ على معرفة الحلالِ والحرامِ المنوطةِ بالكتاب والسنة، فحينئذ تتصادقُ الآياتُ التكوينيةُ وتتوافق الأدلةُ السمعيةُ والعقليةُ وهو السرُّ في نظم ما حُكي عن المتفكرين من الأمور المستدعِيةِ للإيمان بالشريعة في سلك نتيجةِ تفكُّرِهم كما ستقف عليه.
وإظهارُ خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كفاية الإضمارِ لإبراز كمالِ العنايةِ ببيان حالِهم، والإيذانِ بكون تفكرِهم على وجه التحقيقِ والتفصيلِ وعدمِ التعرضِ لإدراج اختلافِ المَلَوْينِ في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجِه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعةِ لأحوال السمواتِ والأرضِ كما أشير إليه، وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحُكم بالنتيجة بمجرد تفكرِهم في بعض الآياتِ من غير حاجةٍ إلى بعض آخَرَ منها في إثبات المطلوب. اهـ.

.قال الثعالبي:

{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السموات والأرض}، قال ابنُ رُشْدٍ: والتفكُّر مِنَ الأعمال؛ كما قاله مالك (رحمه اللَّه)، وهو مِنْ أشرف الأعمال؛ لأنه مِنْ أعمال القُلُوب التي هي أشْرَفُ الجوارحِ؛ أَلاَ ترى أنه لا يُثَابُ أحدٌ على عملٍ مِنْ أعمال الجَوَارح مِنْ سائر الطَّاعات، إلاَّ مع مشارَكَةِ القُلُوبِ لها بإخلاص النِّيَّة للَّه عزَّ وجلَّ في فعلها. انتهى من الَبَيانِ والتحصيل.
قال ابنُ بَطَّال: إن الإنسان إذا كَمُل إيمانه، وكَثُر تفكُّره، كان الغالِبُ علَيْه الإشفاقَ والخَوْف. انتهى.
قال ابنُ عطاءِ اللَّهِ: الفِكْرَةُ سَيْر القَلْب في ميادين الاعتبار، والفَكْرَةِ سِرَاجُ القَلْب، فإذا ذَهَبَتْ، فلا إضاءة له.
قُلْتُ: قال بعض المحقِّقين: وذلك أن الإنسان إذا تفكَّر، عَلِم، وإذا عَلِمَ، عَمِلَ.
قال ابنُ عَبَّاد: قال الإمام أبو القاسم القُشَيْريُّ (رحمه اللَّه): التفكُّر نعتُ كلِّ طالب، وثمرتُهُ الوصولُ بشرط العِلْمِ، ثم فِكْرُ الزاهدين: في فناءِ الدنيا، وقلَّةِ وفائها لطلاَّبها؛ فيزدادُونَ بالفِكْرِ زهْدًا، وفِكْرُ العابدين: في جَميلِ الثوابِ، فيزدادُونَ نَشَاطًا ورغبةً فيه، وفِكْرُ العارفين: في الآلاء والنعماء؛ فيزدادُونَ محبَّةً للحَقِّ سبحانه. انتهى. اهـ.

.قال القرطبي:

وحكي أن سفيان الثوريّ رضي الله عنه صلَّى خلف المقام ركعتين، ثم رفع رأسه إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشي عليه، وكان يبول الدّم من طول حزنه وفكرته.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل مستلقٍ على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لكِ ربًا وخالقًا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له» وقال صلى الله عليه وسلم: «لا عبادة كتفكر» ورُوي عنه عليه السلام قال: «تفكر ساعةٍ خير من عبادة سنة» وروى ابن القاسم عن مالك قال: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر.
قيل له: أفترى التفكر عمل من الأعمال؟ قال: نعم، هو اليقين.
وقيل لابن المسيّب في الصلاة بين الظهر والعصر، قال: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله.
وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة؛ وقاله ابن عباس وأبو الدرداء.
وقال الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته.
ومما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها.
ويروى أن أبا سليمان الدارانيّ رضي الله عنه أخذ قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام لذلك متفكرًا حتى طلع الفجر؛ فقال له: ما هذا يا أبا سليمان؟ قال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تفكرت في قول الله تعالى: {إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ والسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ} تفكرت في حالي وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت.
قال ابن عطية: وهذا نهاية الخوف، وخير الأُمور أوساطها، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله تعالى ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهَم ويُرجى نفعه أفضل من هذا. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرجُ من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عَلَي فيه نِعْمَة، أوْ لِي فيه عِبْرَة. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار.
وعن الحسن البصري أنه قال: تَفَكُّر سَاعَة خير من قيام ليلة. وقال الفُضَيل: قال الحسن: الفكرة مِرْآة تريك حَسنَاتك وسيئاتك. وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك. وربما تمثل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكْرَةٌ ** ففي كل شيء له عبرَة

وعن عيسى، عليه السلام، أنه قال: طُوبَى لمن كان قِيلُه تذكّرًا، وصَمْته تَفكُّرًا، ونَظَره عبرًا.
وقال لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة.
وقال وهب بن مُنَبِّه: ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم، وما فهم امرؤ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل.
وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله، عز وجل، حَسَن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.
وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرْفع صَريعا من بين أصحابه، قد ذهب عقله.
وقال عبد الله بن المبارك: مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقْبَرة ومَزْبَلَة، فناداه فقال: يا راهب، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعْتَبَر، كنز الرجال وكنز الأموال.
وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهْلُك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر، خير من قيام ليلة والقلب ساه.
وقال الحسن: يا ابن آدم، كُلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفَّس للفكرة.
وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة.
وقال بِشْر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.
وقال الحسن، عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان، أو نور الإيمان، التفكر.
وعن عيسى، عليه السلام، أنه قال: يا ابن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا، وعَلِّم عينيك البكاء، وجَسَدك الصَّبْر، وقلبك الفِكْر، ولا تهتم برزق غد.
وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز، رضي الله عنه، أنه بكى يوما بين أصحابه، فسُئل عن ذلك، فقال: فَكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر.
وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحُسَين بن عبد الرحمن:
نزهَة المؤمن الفكَرْ ** لذّة المؤمن العِبرْ

نحمدُ اللهَ وَحْدَه ** نحْنُ كل عَلَى خَطَرْ

رُبّ لاهٍ وعُمْرُه ** قد تَقَضّى وما شَعَرْ

رُبّ عيش قَدْ كَانَ فو ** ق المُنَى مُونقَ الزَهَرْ

في خَرير من العيُو ** ن وَظل من الشَّجَرْ

وسُرُور من النَّبا ** ت وَطيب منَ الثَمَرْ

غَيَّرَتْه وَأهْلَهُ ** سرعةُ الدّهْر بالغَيرْ

نَحْمَد الله وحده ** إنّ في ذا لمعتبر

إن في ذَا لَعبرةً ** للبيب إن اعْتَبَرْ

وقد ذمّ الله تعالى مَنْ لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 105، 106] ومدح عباده المؤمنين: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} قائلين {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا} أي: ما خلقت هذا الخلق عَبَثًا، بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا: {سُبْحَانَكَ} أي: عَنْ أن تخلق شيئا باطلا {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي: يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله، فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل، ولذلك إن العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجماليًا، أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة، ودقائق لطيفة، فإنه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل.
إذا عرفت هذا فنقول: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم، وكيف لا نقول ذلك ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة، رأى في تلك الورقة عرقا واحدًا ممتدا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة.
ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسرارًا عجيبة، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له ألبتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض، وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين، بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة وإن كأن لا سبيل له إلى معرفتها، فعند هذا يقول: سبحانك! والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم، ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول: فقنا عذاب النار.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال: أشهد أن لك ربا وخالقا، اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له». وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عبادة كالتفكر» وقيل: الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض» قالوا: وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله، لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض. اهـ.
قال الفخر:
دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في دلائل الذات والصفات وأن التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات إليه. اهـ.

.قال القرطبي:

قال ابن العربيّ: اختلف الناس أي العملين أفضل: التفكر أم الصلاة؛ فذهب الصوفية إلى أن التفكر أفضل؛ فإنه يثمر المعرفة وهو أفضل المقامات الشرعية.
وذهب الفقهاء إلى أن الصلاة أفضل؛ لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها.
وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته مَيْمُونَة، وفيه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الخواتم من سورة آل عمران، وقام إلى شَنّ معلَّق فتوضأ وضوءًا خفيفًا ثم صلى ثلاث عشر ركعة؛ الحديث.
فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات ثم إقباله على صلاته بعده؛ وهذه السنة هي التي يعتمد عليها.
فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يومًا وليلة وشهرًا مفكرًا لا يفتر؛ فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر، ولا مستمرّة على السنن.
قال ابن عطية:
وحدّثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتًا في مسجد الأقْدَام بمصر فصلّيت العتمة فرأيت رجلًا قد اضطجع في كساء له مسجًّى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة؛ فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس، فاستعظمت جراءته في الصَّلاة بغير وضوء؛ فلما فرغت الصَّلاة خرج فتبِعته لأعِظه، فلما دنوت منه سمعته ينشد شعرًا:
مُسجّى الجسِم غائبٌ حاضر ** مُنْتَبِه القلبِ صامِتٌ ذاكِر

منقبض في الغُيوب منبسِط ** كذاك من كان عارفًا ذاكِر

يَبيتُ في ليلهِ أخا فِكَرٍ ** فهو مَدَى الليلِ نائمٌ ساهر

قال: فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة، فانصرفتُ عنه. اهـ.
قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا سبحانك فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
قال الفخر:
في الآية إضمار وفيه وجهان، قال الواحدي رحمه الله: التقدير: يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا، وقال صاحب الكشاف: أنه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين. اهـ.